From the ancient sea to the ubiquitous hills spotted with iconic olive trees, Palestine and Syria have an unforgettable landscape that will make anyone, regardless of background, culture or language, fall in love with the place. Preserved or destroyed, even the buildings, and the memories within them, are objectively beautiful.
In both English and Arabic, Beirut39 will be publishing an anthology of all 39 writers, including two short stories from Wannous and nine poems by Abu Hawwash.
*The Arabic language version are published below.
ديمة ونوس: قصتان
جهاد
رصيفٌ بلا ُ طه مرّتب ومصفوف بشكل محترم على عكس أرصفة الشوارع الأخرى. يت ّ كئ
عليه سور حديد، تخفي قسوته نباتات مضى زمن وهي تتعربش السور الداخلي؛ لتصل إلى
القمة، وتلمح إيقاع الحياة في الخارج. باب أسود شدي د الضخامة يّتسع لأي سيارة تعبره إلى
الداخل. خلف السور، حديقة كبيرة، أشجارها المع مرة سافرت من المغرب وفرنسا؛ لتستقر
هنا. أزهار شديدة الكرم، ما إن يلمسها نسيم صيف خجول؛ حتى تلفظ رائحتها. الأرض
المعشوشبة مرتبة بطريقة بديعة، فالعشب ينمو بشكل جماعي، ولا يسمح لعشبة أن تكبر أكثر
من جارتها. باب البيت من الخشب الثمين والنادر. فهو يحمي حياتهم من عيون الما رة
الحاقدين والجاحدين. الما رة الذين يحسدون باستمرار من أنعم الله عليهم بمال حلال،
وبأرزاق بللت جباههم بغزارة حتى تراكمت .
وراء الباب مباشرة، صالون فسيح يمطر ترفًا وفخامة. أرضه الرخامي ُ ة متخمةٌ بالأثاث
الإيطالي، والتحف المذهبة. تماثيل عارية تنتصب بفخر في زواياه. لوحات أصلية معّلقة على
الجدران بعشوائية مفتعلة. فاللوحة التي يغلب عليها اّللون الأحمر مث ً لا تتصدر الحائط الذي
يسند الأريكة الحمراء. أما الكنبات الصفراء فترقد بسلام تحت لوحة عباد الشمس، وهكذا.
أربع طاولات تتوسط كل ركن من أركان الصالون. طاولات من السنديان مستديرة خوفًا من
الرؤوس. شتلات تتدرج ألوانها بين الأخضر الداكن، والأخضر المائل إلى الصفرة، والأحمر
الخريفي الحار مبعثرة في كل مكان. أضواء خافتة تتسّلل من تجويفات مخفية في السقف.
في تلك الزاوية، حيث تتدلى شجرة الأروكاريا، والضوء المرهف يتلصص من بين وريقاتها؛
ليرسم انحناءات لطيفة على الجدار الأبيض. هناك، في تلك الزاوية تحديدًا جلس جهاد على
كرسيه المفضل المصنوع من الخيزران الملون. طاولته الصغيرة التي حملها من الهند تقف
باستعداد عند قدميه. على سطحها منفضة سجائر. سيجار ثخين. أعواد كبريت طويلة،
وفنجان قهوة. بيده اليسرى، حمل جهاد رواية "بتوش الحلوة" لعزيز نيسن، ويده اليمنى
متفرغة تمامًا؛ لتحمل فنجان القهوة بين الفينة والأخرى؛ أو لتدس السيجار بين أصابعها
الثخينة؛ أو لتهوي بصفوته بشكل آلي على المنفضة الزجاجية المستطيلة المصنوعة خصيصًا
للسيجار. تلك الرغبة اللعينة بالتألق تدفعه للقراءة. تغصبه على تصفح أحدث الكتب السياسية؛
والروايات؛ والقصص؛ والمسرحيات، فقط ليخبر أصدقاءه المعدمين الذين لا يملكون في
الواقع مايتباهون به سوى مخزونهم الثقافي؛ أنه هو أيضًا يحب الاطلاع، ويمتلك شغفهم،
ولن يستطيعوا التفوق عليه بأية عادة، أو أي هاجس. ربما هي ليست رغبة، وإنما عقدة تحفر
روحه باستمرار، وتذ ّ كره أنه جهاد مصطفى الآغا، ابن أهم المسؤولين المتقاعدين الذين
حافظوا على مناصبهم ثلاثين عامًا، وأصبحوا متألقين كنجوم السينما بالضبط. إن وجدوا في
مكان عام، يتدافع الناس من مقاعدهم للحصول على توقيعهم، أو لالتقاط صورة بقربهم، أو
لتأمل وجوههم السمحة على الأقل.
يص ر جهاد دائمًا على انتزاع هذه الفكرة من رؤوس كل من يعرفهم. لكنه لن يفلح بشلع
ثلاثين عامًا تجري في دمائهم.. في محيط الفؤاد تحديدًا فتجعله ينبض بذعر وأسى. مصطفى
آغا صار كالعطر، ما إن يلفظ اسمه حتى تسري قشعريرة في أجساد الناس، ويتخبط يومهم.
صار كالأسطورة في أذهانهم، فالسنوات تم ر، ومصطفى آغا يجلس وراء طاولته في الوزارة
لا تستطيع قوة على الأرض أن تزحزحه ولو قلي ً لا من مكانه. الناس تمرض، وتموت،
وتهاجر، وتغترب، وتعود إلى الوطن ومصطفى آغا ينتظر عودتهم في مكانه المعتاد.
في تلك الزاوية تحديدًا، رسم دخان السيجار غيم ً ة صغيرًة فوق رأس جهاد بدت وكأنها الهالة
الشفافة التي تعلو عادة رؤوس الملائكة. يتابع قراءته بمتعة تثير الحسد. لكن هناك مشكلة.
في كل مرة ينجح فيها جهاد بإبعاد زوجته عن مخيلته، تعود من جديد لتلبس شخصية "بتوش
الحلوة". يتصورها وهي تدلل ضيوفه وتتدلل عليهم. تتحدث معهم وتساير ميولهم الأدبية،
والسياسية، والاقتصادية، والفلكية، وأحيانًا العاطفية. تزوجها وهي في الخامسة عشرة. كانت
هزيلة وناعمة. طفلة لا يهمها من الزواج سوى الانتقال من بيت أهلها في حلب إلى بيت
زوجها في العاصمة دمشق. سكنت بيته. تفتح جسدها. صارت فجأة امرأة ضخمة. جسمها
الأسمر ممتلئ ومربرب. قامتها طويلة، وجذابة. عيناها زرقاوان. شعرها بلون الفحم كثيف
وناعم.
جهاد متوسط القامة، نحيل، لكنه يملك كرشًا يبقيه حيًا لأشهر دون طعام. لونه حنطي مائل
إلى الأحمر. وجهه الناعم منقوش بالنمش. شعره البني خفيف ومج عد قلي ً لا. عيناه لئيمتان إلى
حد بعيد. يبدو أنفه تفصيلا أضافه الله دون قصد، فهو ككرة صغيرة ثبتت على عجل، وقد
تسقط في أي لحظة. شفتاه صغيرتان ولونهما باهت. أسنانه قصيرة ومزدحمة في فمه، فيبدو
وكأنه لم يخسر أي سن منذ الطفولة وأن أضراس العقل الأربعة ولدت هي أيضًا، واستقرت
في فمه، وستبقى في منصبها ثلاثين عامًا، وفي ً ة تلوك النعمة بشراسة؛ فتصبح سهلة الهضم.
لا يملك جهاد سوى شركة ضخمة تضم معمل نسيج، ومصنع لحوم معلبة، وآخر للأحذية
ورابعًا للورق المقوى، وخامسًا للطلاء. هذه الأملاك المعلنة. أما غير المعلنة فهي مجرد
رخصة ملابس إيطالية، ومجمع ضخم لكل مستلزمات البيت من الطحين إلى الأثاث، وشركة
تأجير سيارات، ووكالة أحذية فرنسية. وبهذا يكون جهاد من أهم المساهمين في دعم
الاقتصاد الوطني ورفع مستوى المعيشة، وتشغيل اليد العاملة، وبالتالي القضاء على البطالة.
في تلك الزاوية تحديدًا، حيث بدأت شجرة الأروكاريا تك ح من دخان السيجار، كان جهاد لا
يزال غارقًا في كتابه، وخيال زوجته يرقص أمامه على خشبة المسرح ك"بتوش الحلوة".
تنحني بطريقة مثيرة فيتدلى نهداها، وينهمر شعرها الكثيف، وتتساقط قطرات عرقها على
الخشبة، وتتبخر فورًا من حرارة خصرها. خصرها الذي يهتز بمرونة عجيبة، فيعطي
الانطباع بأنه منفصل عن جسدها .
في حديقة البيت، غيمة ينهمر منها عرق جبينه كل يوم، أمطرت حتى الآن خمس سيارات
مركونة تحت مظلة حديد تستلقي على سطحها دالية عنب مهملة. سيارة كبيرة شبابيكها
السوداء ترهق العين وتثير الغموض، وأخرى صغيرة لونها الفضي يجعلها تبدو فسيحة.
سيارة حمراء كبيرة. ورابعة زرقاء كانت هدية جهاد للسيدة بتوش جهاد آغا في عيد ميلادها
الثلاثين؛ تناسب لون عينيها البحريتين أو السمائيتين. أما السيارة الأخيرة فهي مخصصة لنقل
الأطفال الخمسة إلى مدارسهم وحفلاتهم ونزهاتهم. لكن جهاد لا يتوقف عن تذكير أصدقائه
ومعارفه بأن هذه الأملاك والأموال ليست نطفا أفرزها منصب والده لتنمو، وتكبر، وتد ر،
عليهم ما هب ودب من النطف. كلا معاذ الله، بل هي من عرق جبينه هو الذي يعمل من
السابعة صباحًا حتى التاسعة مساء. يلهث كأي مواطن؛ ليطعم أولاده، ويجمع لهم قلي ً لا من
المال يضمن لهم كرامتهم.
بعد مساهمته البناءة في مساندة الدولة والأخذ بيدها في دعم الاقتصاد الوطني، اكتشف جهاد
فجأة أن الثقافة أيضًا بحاجة إلى قدراته وجهوده. واكتشف الآخرون فجأة أن جهادًا يعشق
المسرح، ولديه هاجس لا يفارقه حتى أثناء نومه وهو تمويل عرض مسرحي ضخم. ثم
ظهرت ميوله السينمائية أيضًا، فهرول إلى أهم مخرج سينمائي أفلامه ممنوعة كلها
ل"أسباب فنية" طبعًا، وطلب منه أن يكون ع راب فيلمه القادم. واقترح عليه أن تكون فكرة
الفيلم الأساسية هي جوع المواطن وفقره، القهر الذي يعانيه من الكبت، الغ صة التي تخرش
صوته المقموع. أن تكون فكرته هي الإهانة التي يشعر بها المواطن عندما يرى بأم عينه
أمواله المسلوبة؛ تنعم بها شريحة دون أخرى. أن يروي الفيلم سيرة رجل يعمل موظفًا،
وسائق تاكسي، وعامل تنظيفات، وخياطًا و"كهربجي"؛ فقط ليسد جوع أسرته الكبيرة. فيلم
يتحدث عن حاجتنا للتضامن، والحوار؛ لنحمي وطننا؛ وطن الشعب السوري الذي يتمتع منذ
الأزل بجبهة مرفوعة إلى السماء، وبكرامة لا يقوى الشيطان بنفسه على التقليل من شأنها أو
تحقيرها. لك ن المخرج السينمائي الذي منعت كل أفلامه لا يمتلك جرأة جهاد وحماسه.
بعد أيام، ولدت لدى جهاد موهبة غنائية فتبّنى أغنية وطنية تشيد بالمواقف الثابتة و"قلب
العروبة" الفتي، وتشتم الأعداء، والأشرار؛ فأنتجها وأشرف شخصيًا على تصويرها في
تدمر، وبصرى، وأفاميا، والمدن الميتة في إدلب، وقلعة حلب، وقلعة المرقب، والحصن،
وصلاح الدين. في طرطوس القديمة، والجامع الأموي، وسوق الحميدية، وقلعة دمشق، وكل
الصروح البريئة تمامًا مما يحدث.
ثم وأثناء مروره في شوارع دمشق التي يعشق، سمع بكاءها على نهر بردى الذي جف
ومات من العطش والإهمال، فتبنى حملة؛ لتنظيفه؛ وتزيين ضفافه بالزهور والياسمين.
وصارت دمشق تفوح بعطر ساحر تمتصه خلايا الجسد فتتفتح بالحب والتسامح. وها هي
الحياة جميلة، ونظيفة، والوطن شاكر للأموال التي أرهقت جهاد.. هو الذي يفدي المواطن
بروحه ودمه.
في تلك الزاوية تحديدًا، أشرفت رواية "بتوش الحلوة" على الانتهاء، والسيجار الطويل فقد
هيبته وصار رمادًا رخيصًا، وقعر فنجان القهوة ينضح بثفل لزج، والأروكاريا انحنت من
شدة التعب. هناك، في تلك الزاوية تحديدًا استنشق جهاد حفنة من الهواء، وقرر أن الانتقادات
المغرضة لن تقتل حماسته؛ ل"المساهمة بازدهار الوطن وبتعزيز اللحمة الوطنية، وبمساعدة
المواطن على استرجاع حقه في العيش، والعمل بكرامة وعفة". فالشعب السوري يتمتع منذ
الأزل بجبهة مرفوعة إلى السماء وبكرامة لا يقوى الشيطان بنفسه على التقليل من شأنها أو
تحقيرها.
حنان
ما إن يذكر اسمها حتى ترتسم على الوجوه ابتسامات تخفي في باطنها تفاصيل كثيرة، وتلتمع
المقل بالغمز. إنها حنان. حنان الجذابة، ذات العينين العسليتين، والأنف الروسي المغرور،
والشفتين الخمريتين، والقامة الطويلة، والجسد الممتلئ، والشعر الكستنائي الطويل.
حنان التي تعاشر كل الناس بالحميمية ذاتها والود نفسه. تعشق الصخب والضجيج. تمقت
الطقوس والعادات المقدسة. زوجها تلزمه ساعة كاملة في الصباح؛ ليحتسي فنجان القهوة
،ويدخن أربع سجائر، ويصغي لفيروز تغني من وراء الجدران. حنان تكره هذا الطقس
الصباحي. تستيقظ في العاشرة، تشرب القهوة وتدخن بسرعة، تبحث في الراديو عن أغنية
صاخبة، تدندن مع اللحن، وتبدأ يومها الذي يشبه كل الأيام. أسامة يعمل في البيت، ونادرًا ما
يخرج في الصباح. يقرأ الصحف الرسمية الثلاث التي تصله فجرًا، يتمعن في عناوينها،
يتأمل مواضيع افتتاحياتها ثم يكتب مقا ً لا ويرسله إلى الجريدة. حنان لا تعنيها أخبار الدنيا،
ولا تقرأ الجرائد، لكنها تقول دائمًا إنها تفضل "ال سفير" و"الحياة"، لأن الصحف السورية
تخدش الزجاج. فنوعية الورق سيئة والحبر الرخيص يزيد الزجاج اتساخًا. كما أن الكلمات
المتقاطعة في الصحف السورية ممجوجة ومك ررة، ولا تزيدها سوى جه ً لا.
يبدو هذا اليوم كغيره من الأيام. الشمس كعادتها مدت لسانها، وتمسكت بالأفق من ناحية
الشرق وبدأت تتسلقه شيئًا فشيئًا إلى أن حملتها السماء الصيفية، ورمتها في منتصف
صفحتها.
بالفعل بدا هذا الصباح كغيره من الصباحات. كلّ الصباحات منذ ظهور أول كائن حي على
الأرض. فالعصافير خرجت من أعشاشها كقطيع لتعلن بداية يوم جديد. والرجال المتقاعدون
الميسورون تهافتوا إلى الشارع بكثافة مخيفة؛ لممارسة رياضة الصباح، علهم يتخلصون من
بعض الشحوم؛ التي مضى زمن على تخزينها بعناية.
لا بد أن هذا الصباح كغيره من صباحات دمشق "التموزية". فشبابيك البيوت المتعبة من
السهر الطويل لم تفتح بعد. والسيارات التي تبيع الغاز والفواكه وال ُ خ ضر والمحارم لم تضجر
من الزعيق وحيدة في الشارع في هذه الساعة المبكرة دون أن تلمح أي امرأة تولول من
شباكها لشراء جرة غاز، أو لتفاصل في سعر كيلو البطاطا الذي يرتفع باستمرار دون رأفة
أو حتى خجل.
وصو ً لا إلى كلمة خجل، كان هذا الصباح كغيره من الصباحات الدمشقية الرطبة. لكنه منذ
هذه اللحظة لم يعد كذلك. فحنان على غير العادة، غادرت سريرها عند السابعة. لم تنظر إلى
أسامة الّنائم كالأطفال بقربها. بالأحوال الطبيعية يكاد أسامة لا يظهر في السرير الواسع.
قامته النحيلة والقصيرة تتك ور تحت الملاءة فتبدو واحدًة من ثنياتها. لكن عندما تنام القامة
الهزيلة هذه بعمق، تتح ول إلى جثة لا روح فيها.
لا يزال هذا الصباح طبيعيًا حتى بالنسبة إلى أسامة الغارق بالنوم، فهو لم يعرف بعد أن
حنان غادرت فراشهما في هذه الساعة المبكرة.
انسّلت حنان من سريرها عند السابعة تمامًا. تم هلت في مشيتها؛ كي لا توقظ أسامة. فتحت
باب الشرفة. استنشقت رائحة الصباح الطازجة التي يحضرها الله بمزاج عندما يستيقظ كل
يوم. دخلت إلى المطبخ. سكبت الماء في الركوة النحاسية. إنها تعشق طعم الصدأ. أشعلت
الغاز. غلت الماء. وضعت ملعقتين من البن البرونزي بالهيل. بدأت الرغوة تطفو على
السطح، ولم يعد بإمكان حنان أن تلمح وجهها. وضعت فنجانها المفضل الذي كان أول
تفصيل يحببها بالطقس. صار الفنجان هذا طقسها مع القهوة. خرجت إلى الشرفة الموازية
لجبل "قاسيون"؛ لتكون قريبة منه. قريبة من صباحه الذي يبدأ عادة في السابعة والربع.
جلست على كرسي القش، وبدأت تفكر بتلك التفاصيل وتتذوقها واحدة تلو الأخرى. تعشق
تفصي ً لا أكثر من الآخر، فتتخيله من جديد. بيدها اليسرى تمسك فنجان القهوة، وبإصبع يدها
اليمنى تدور على أطراف الفنجان بهدوء، وكأنها تعيش في خلايا خزفه الدقيقة. تلمس حوافه
بمتعة كبيرة. فكرت أنها تعشقه. ستموت إن لم يعد بوسعها رؤيته. تذكرت تفاصيل وجهه،
صار الفنجان للحظات تلك التفاصيل. صارت تلمس حوافه، وكأنها تمر على ملامح وجهه
الدقيقة. على جبهته العريضة. إلى الأسفل قلي ً لا، تلمس عبسة حاجبيه الساحرة، تتدحرج
بإصبعها أكثر فتصل إلى أنفه الطويل والعذب، ثم تسقط يدها من الخوف فتستقر على شفتيه
المشققتين من كثرة ما يعضهما. هنا، عند مقطع شفتيه بالضبط، ترشف رشفة قهوة، وتستعيد
أنفاسها.
أسامة يعرف كل شيء. لكنه في كل مرة يقرر فيها أن يبوح بعذابه، ويضع حدًا لمراوغة
حنان، يتذكر شخصيتها القوية، وعينيها النمريتين، وصوتها الواثق. يخاف من المواجهة.
يخاف أن يخسرها، أن يفقد متعة العيش معها. على الأقل هو يتمدد بقربها كل مساء. يستنشق
زفيرها وينام بطمأنينة. حنان لا تشبهه على الإطلاق، لكنه أدمنها. شخصيتها الجريئة
ومبادراتها الحارة وقدرتها على التسلل إلى حياة الآخرين، ساعدت أسامة في عمله، وحمته.
علاقتها بجابر جعلت من أسامة أهم صحافيٍ في جريدته. عندما يذهب إلى العمل الكل يتودد
له، ورئيس التحرير يستشيره بكل إجراء جديد، أو تعديل ما، وأحيانًا كان يستشيره حتى
بألوان ملابسه أو بعلاقته بزوجته التي تحولت إلى طاولة بعد الولد السادس، أو بالطريقة
الأسلم لتربية الأطفال.
فجأة، ش مت حنان رائحته تداعب أنفها الرفيع، وتملأ تجويفاته. ليست مجرد رائحة. تذكرت
عندما كانا يرقصان ذلك المساء؛ محاطين بحشد من أناس يتصببون عرقًا وحبًا. ذلك المساء،
عبق أنفها بروائح أجساد كثيرة. برائحة الزفير التي تخرج من أنوفهم، وأفواههم رطبة
لزجة، تعشش في زوايا المكان، وتسكنه هاجسًا أبديًا. ذلك المساء، استطاعت حنان أن تميز
رائحة زفيره، أحست بعشق يبلبل أوردتها، شعرت بأمان عظيم، وجدت للحظة أن هذه
الرائحة هي انتماؤها لروحها وجسدها، انتماؤها لهذه الحياة الغريبة والقاسية أحيانًا.
استنشقتها، وحفرتها في ذاكرتها، وفي لفيفات دماغها، فأصبحت تهجس بها كل يوم. أدمنتها،
ولم تعد تقوى على الإفلات من رغباتها وشغفها في أن تراه باستمرار.
فجابر لم يكن كقصي الصافي عجوزًا سمجًا، ولا كجعفر طه الذي تحول مع الوقت إلى
ممسحة قذرة تستخدم في الأزمات. كما أنه لا يبدو ولا بأي شكل من الأشكال كعيسى خضر؛
ذلك المتقاعد الذي لا ينفع إلا للبكاء على أطلال عزته وسلطته التي خبا نورها. كان جابر
شيئًا آخر: شابًا مفعمًا بالحياة. لم يفقد بعد بريق عينيه الترابيتين. جاذبيته نادرة وفيها
خصوصية كبيرة فهو ليس من الأشخاص المألوفين الذين نبحلق في وجوههم لساعات لنتذكر
أين التقيناهم. صوته العالي ليس منفرًا وضحكته الرقيعة ليست مبتذلة. لونه الأسمر يبدو
كمزيج من الشوكولا اللزجة والحليب الطازج وحبة كستناء مح مرة وربما بضع أعواد من
القرفة. وجنتاه المزروعتان بشعر خفيف وناعم تبدو ظلالهما ساحرًة؛ خا صة في العتمة.
نظرت حنان من شرفتها إلى الزقاق الضيق والعتيق. إلى بلاطه الذي يعد أثريًا بعد أن
رصفت معظم شوارع دمشق ببلاط زهري وأصفر فاقع ومبتذل. حافظ الزقاق هذا على
بلاطه المرمري الفرنسي الأسود الذي إن ابتل تتجدد روحه؛ وتفوح من لمعانه رائحة التراب
المعجون بماء المطر المالح. تدلت حنان بجسدها فوق زخرفات الدرابزين الطحيني. تأملت
سيارتها الجديدة المركونة بالقرب من باب العمارة. لم تكن السيارة الحمراء الحديثة والباهظة
الثمن تليق بالعمارة ذات الطراز الفرنسي القديم؛ المزخرفة برؤوس حيوانات متوحشة
كالنمر، والأسد، والثعلب الماكر.
تذ ّ كرت عندما كانا يرقصان ذلك المساء. إذذاك همست حنان بأذن جابر المنداة بالعرق
والحب. قالت إنها لم تعد قادرة على تح مل سماجة سائقي سيارات الأجرة الفضوليين منهم
واللجوجين، أو م من يكتبون تقارير يومية عن آراء المواطنين المساكين، أو حتى العجزة
الذين تنتفض شبابيتهم للحظات عندما يلمحون صبية جميلة. قالت إّنها تموت غيرة من
زوجته المدللة. همست في أذنه أنها تعشقه، وأنه مختلف عن كل الرجال الذين عاشرتهم؛
وأنها لا تفلح بإبعاد صورة جسده وملمس أصابعه الرقيق عن مخيلتها، وأنها تريد سيارة،
مجرد سيارة، وماذا تعني سيارة بالنسبة إليك يا جابر؟ لن تؤثر على ميزانيتك، لن تكلفك
شيئًا، لن تخرب ترتيب رزم النقود المكدسة في خزانة أموالك.
هكذا كانت تجري الأمور دائمًا، إلا أن جابرًا يعد حاتم الطائي إذا ما قارناه بقصي الصافي
ذلك العجوز الذي لا تفضي حماسته إلا لرزمة من الآلافات؛ تشتري بها حنان ملابس،
وبعض الحلي الزائفة، أو الحقيقية أحيانًا. أما جعفر طه فكان يكتفي بمنحها الساعات الثمينة
التي تهدى إليه أو أقلام "مون بلان" المذهبة؛ أو حتى السبحات المصنوعة من اللؤلؤ الحقيقي،
أو المرصعة بألماس يبهر العين بلمعانه. أما عيسى خضر فهو حكاية أخرى. كان يشتري
لحنان ملابس رخيصة ومبتذلة تشبه إلى حد بعيد بذلاته المزركشة القبيحة؛ المصنوعة من
قماش سميك وجلف الملمس. وحده جابر، كان سخيًا بشكل مدهش. فإيجار بيت حنان وأسامة
مدفوع لسنة كاملة. وخزانة ملابسها تختنق باستمرار بأجمل الفساتين وأثمنها. وصندوق
مجوهراتها يغ ص بألوان فاتنة وبراقة. حتى جسدها صار مدل ً لا الآن، فسيارتها الحمراء
تنتظرها بكل حب.
اّتصل بها أبو علاء البارحة. كان صوته متهدجًا من الرغبة. طلب منها اّللحاق به إلى مكتبه.
حنان لا تمانع عادة في تلبية الدعوات. فالحياة بالنهاية هي هذه العلاقات المتعبة لكن المفيدة
بالتأكيد. التقاها أبو علاء صدفة عند صديقه قصي الصافي. حدث ذلك منذ سنتين في الخامس
من حزيران. ومنذ ذلك اللقاء، لم يعد أبو علاء قادرًا على الإمساك بخيط قوته وسلطته
الطاغية دائمًا. صارت حنان تقرر عنه مصير أصدقائه: تبعد فلانًا وتقرب فلانًا. تجعله يحقد
على فلان وتحببه بفلان. وأبو علاء مستسلم تمامًا لرغباتها. لكن الوضع الآن لم يعد كما كان
عليه، فأبو علاء هو عدو جابر اللدود. وللمرة الأولى تجد حنان نفسها أمام خيار صعب: إما
أبو علاء ذلك الستيني المحنك الذي إن صاحبته تستمد منه طغيانه، وتشارك في صنع
القرار، أو جابر الجميل، المثير، المقرب، المبعد، الساحر، القوي، الهش، وصفات أخرى
تعجز أي نفس عن ذكرها. يبدو الخيار في غاية الصعوبة. فلكل واحد منهما طعمه الخاص.
ولكل واحد منهما ق وته الخاصة. ف ّ كرت حنان أنه في هذه الساعة المبكرة من النهار ليس
عليها إلا أن تتأمل سيارتها الجديدة، وذلك الزقاق العتيق المحفور بالأحلام. وتؤجل هذا
القرار الثانوي إلى الليل عندما تندس في الفراش، وتتأمل العتمة وتفكر. أما زوجها الوديع
الذي يتك وم كل مساء بالقرب منها كق ّ طة أليفة، فسينظر إلى وجهها في العتمة، ويشكر الرب
الذي تذكره بهذه المرأة العظيمة المضحية.
سامر أبو هواش: تسع قصائد
الذين رحلوا
أصدقائي
ولهم عيون تلمع
وتنظر بحنان
من وراء الغيوم
نهضوا فجأة
بثيابهم الحقيقية
وخرجوا
بكل اعتيادية
تاركين لي الحياة
بقشيشًا سخيًا
على الطاولة.
الأشياء المعدنية
حبًا بالله وبالأشياء المعدنية،
امنحني يا رب،
قبل الجحيم،
بعض السعادة العابرة
على شاطئ البحر.
بعد بوب ديلان
شاهد ُ ت رج ً لا يج ر منز ً لا قال إنه يريد أن يضعه على حافة البحر، وامرأة جميلة تعرج، تج ر
وراءها شعبًا من الأطفال العرج. وكلمات تنبح، ومستويات مختلفة من الصمت، تجرها
الخيول. شاهدت أكياس نايلون سوداء تطير في الصحراء، وشقراء بشعر طويل ترفع نهدها
إلى الله، وتبكي. شاهدت الصديق الذي مات في نومه، يبتسم خلف المطر. شاهدت المطر
أيضًا. شاهدت قطارات تقتحم غرف نوم، ومرايا ب راقة تحطمها النظرات. ونظرات تتح ّ طم
وحدها. وكان صبي بالشورت يقفز ليلمس فراشة يحسبها غيمة. وكان عجائز سود يتدربون
على "الراب"، بالك ز المستم ر على أسنانهم. وكان فلاسفة يحاولون عبثًا تفسير جوز الهند.
شاهدت طينًا ينصب خيمة، ووح ً لا يحفر سراديب سرية. شاهدت الستينات تتق دم نحوي مادة
ذراعيها، وعلى كتفيها غرابين أسودين. شاهدت السعادة عارية تقفز بالحبل. شاهدت جدتي
تسبح في كأس. شاهدت أبي ينمو على جدار. شاهدت التسعينات طائرة ورقية تذوب في
ضباب.
فوتوشوب
بيدين من "فوتوشوب" أعلى المخيلة أحاول إصلاح وجه عجوز عابر في المركز التجاري،
مف ّ كرًا في معنى عجوز عابر، متأم ً لا في الحيز الفيزيائي للحياة، مق ّ طعًا الصورة إلى مربعات
ومستطيلات، واضعًا في كل واحد منها غرضًا أو شخصًا، منتظرًا أن يأتي المعنى وحده،
مر ددًا: سيأتي، سيأتي المعنى، ليس عليك سوى أن تنظر، وتنتظر. أجعل ذئبًا يعوي في وجه
طفل خائف، ولا يه مني تفسير الذئب أو الطفل أو الخوف. أضع مرآة على مؤخرة حسناء
تمشي، وأرسم فيها عيني دلفين وأنف مه رج. أترك مكان الفم فارغًا. وأحسب الدموع نوعًا
من العرق الغامض. يمكن أيضًا ليدي، مستلقية على جذع شجرة عجوز، أن تبكي. أشرح،
أع رف؛ البكاء: يدي مستلقية على جذع شجرة عجوز. يمكن دائمًا استخلاص شيء من لحظة
ميتة. يمكن تأكيد شيء ما بكبسة زر.
مصالحة
أف ّ كر أيها الح ب أن أصالحك على نفسك؛
أن أشتري لك دراجة هوائية
وأدعو ك إلى البحر
حيث يمكننا الجلوس معًا على مقعد مهجور
وتأ مل الموج البسيط
يغسل بعينيه أقدام العابرين
في غروبه الس ري،
وعندئذ لن تحتاج إلى أكثر من تنهيدة
لتغف ر
زلات روحك
ولا إلى أكثر من نظرة
لتملأ بالنجوم
جيوب أطفالك المستوحشين.
قبل أن تبدأ البنايات بالانهيار
لم نكن نعرف شيئًا
كنا نح دث الهواء ببلاهة تامة
ونرسم أشكا ً لا غامضة على الماء
وفي الغيوم
ونش ك دبابيس ملونة على الخرائط
غير مكترثين
قلب أي مدينة ينزف الآن
وأي شعوب تأخذ بالانقراض
كنا نتق دم
من كل الجهات
باتجاه حفرة واحدة.
الرجل الذي يتأمل الوجوه
لا ب د من أن يخرج في النهاية بنتيجة ما
رجل مثلي
لا يتعب من تأمل الوجوه
لا لأنه يحب ذلك
لكنه س ر ما
يجعله لا يك ّ ف عن تأمل الوجوه
التي يعرف
أنها
في نهاية الأمر
لن تقول شيئًا.
وحيدًا مع أغنية تطلّ على الشاطئ
السمكة الصغيرة تسابق ظلها في بركة الماء،
تحلم بقرض للبدء بتجارة خاصة،
تمارس الجنس في الح مام مع تاجر مخدرات آسيوي
يمارس الجنس مع وشم طويل أسفل ظهرها؛
الأصدقاء يحّققون حلم صديقهم لاعب الفوتبول الذي مات بجرعة زائدة
فيذهبون إلى الشاطئ
ويرمون أنفسهم في الغروب،
بينما
ابتسامة الصديق الميت
تصنع ظلا ً لا كاملة
على الرمل.
الوحيدون
على مقاعد الحدائق
أو مراحيض البيوت
يجلس الوحيدون
وحيدين تمامًا
لا أحد يعرفهم
ولا يعرفون بعضهم
ولا أحد يعرف
أنهم وحيدون
لأنهم وحدهم
الوحيدون
دائمًا
من كل شيء.
Get Social Share!